مواضيع مماثلة
بحـث
المواضيع الأخيرة
بيان شروط الإرادة ومقدمات المجاهدة وتدريج المريد في سلوك سبيل الرياضة
صفحة 1 من اصل 1
بيان شروط الإرادة ومقدمات المجاهدة وتدريج المريد في سلوك سبيل الرياضة
بسم الله الرحمن الرحيم
بيان شروط الإرادة ومقدمات المجاهدة وتدريج المريد في سلوك سبيل الرياضة
من كتاب الرياضة بإحياء علوم الدين لابي حامد الغزالي
واعلم أن من شاهد الآخرة بقلبه مشاهدة يقين أصبح بالضرورة مريدا حرث الآخرة مشتاقا إليها سالكا سبلها مستهينا بنعيم الدنيا ولذاتها فإن من كانت عنده خرزة فرأى جوهرة نفيسة لم يبق له رغبة في الخرزة وقويت إرادته في بيعها بالجوهرة ومن ليس مريدا حرث الآخرة ولا طالبا للقاء الله تعالى فهو لعدم إيمانه بالله واليوم الآخر ولست أعني بالإيمان حديث النفس وحركة اللسان بكلمتي الشهادة من غير صدق وإخلاص فإن ذلك يضاهي قول من صدق بأن الجوهرة خير من الخرزة إلا أنه لا يدري من الجوهرة إلا لفظها وأما حقيقتها فلا ومثل هذا المصدق إذا ألف الخرزة قد لا يتركها ولا يعظم اشتياقه إلى الجوهرة فإذن المانع من الوصول عدم السلوك والمانع من السلوك عدم الإرادة والمانع من الإرادة عدم الإيمان وسبب عدم الإيمان عدم الهداة والمذكرين والعلماء بالله تعالى الهادين إلى طريقه والمنبهين على حقارة الدنيا وانقراضها وعظم أمر الآخرة ودوامها فالخلق غافلون قد انهمكوا في شهواتهم وغاصوا في رقدتهم وليس في علماء الدين من ينبههم فإن تنبه منهم متنبه عجز عن سلوك الطريق لجهله فإن طلب الطريق من العلماء وجدهم مائلين إلى الهوى عادلين عن نهج الطريق فصار ضعف الإرادة والجهل بالطريق ونطق العلماء بالهوى سببا لخلق طريق الله تعالى عن السالكين فيه ومهما كان المطلوب محجوبا والدليل مفقودا والهوى غالبا والطالب غافلا امتنع الوصول وتعطلت الطرق لا محالة فإن تنبه متنبه من نفسه أو من تنبيه غيره وانبعث له إرادة في حرث الآخرة وتجارتها فينبغي أن يعلم له شروطا لا بد من تقديمها في بداية الإرادة وله معتصم لا بد من التمسك به وله حصن لا بد من التحصن به ليأمن من الأعداء القطاع لطريقه وعليه وظائف لا بد من ملازمتها في وقت سلوك الطريق أما الشروط التي لا بد من تقديمها في الإرادة فهي رفع السد والحجاب الذي بينه وبين الحق فإن حرمان الخلق عن الحق سببه تراكم الحجب ووقوع السد على الطريق قال الله تعالى وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون والسد بين المريد وبين الحق أربعة المال والجاه والتقليد والمعصية وإنما يرفع حجاب المال بخروجه عن ملكه حتى لا يبقى له إلا قدر الضرورة فما دام يبقى له درهم يلتفت إليه فهو مقيد به محجوب عن الله عز وجل وإنما يرتفع حجاب الجاه بالبعد عن موضع الجاه بالتواضع وإيثار الخمول والهرب من أسباب الذكر وتعاطي أعمال تنفر قلوب الخلق عنه وإنما يرتفع حجاب التقليد بأن يترك التعصب للمذاهب وأن يصدق بمعنى قوله لا إله إلا الله محمد رسول الله تصديق إيمان ويحرض في تحقيق صدقه بأن يرفع كل معبود له سوى الله تعالى وأعظم معبود له الهوى حتى إذا فعل ذلك انكشف له حقيقة الأمر في معنى اعتقاده الذي تلقفه تقليدا فينبغي أن يطلب كشف ذلك من المجاهدة لا من المجادلة فإن غلب عليه التعصب لمعتقده ولم يبق في نفسه متسع لغيره صار ذلك قيدا له وحجابا إذ ليس من شرط المريد الانتماء إلى مذهب معين أصلا وأما المعصية فهي حجاب ولا يرفعها إلا التوبة والخروج من المظالم وتصميم العزم على ترك العود وتحقيق الندم على ما مضى ورد المظالم وإرضاء الخصوم فإن من لم يصحح التوبة ولم يهجر المعاصي الظاهرة وأراد أن يقف على أسرار الدين بالمكاشفة كان كمن يريد أن يقف على أسرار القرآن وتفسيره وهو بعد لم يتعلم لغة العرب فإن ترجمة عربية القرآن لا بد من تقديمها أولا ثم الترقي منها إلى أسرار معانيه فكذلك لا بد من تصحيح الشريعة أولا وآخرا ثم الترقي إلى أغوارها وأسرارها فإذا قدم هذه الشروط الأربعة وتجرد عن المال والجاه كان كمن تطهر وتوضأ ورفع الحدث وصار صالحا للصلاة فيحتاج إلى إمام يقتدي به فكذلك المريد يحتاج إلى شيخ وأستاذ يقتدي به لا محالة ليهديه إلى سواء السبيل فإن سبيل الدين غامض وسبل الشيطان كثيرة ظاهرة فمن لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طرقه لا محالة فمن سلك سبل البوادي المهلكة بغير خفير قد خاطر بنفسه وأهلكها ويكون المستقل بنفسه كالشجرة التي تنبت بنفسها فإنها تجف على القرب وإن بقيت مدة وأورقت لم تثمر فمعتصم المريد بعد تقديم الشروط المذكورة شيخه فليتمسك به تمسك الأعمى على شاطيءالنهر بالقائد بحيث يفوض أمره إليه بالكلية ولا يخالفه في ورده ولا صدره ولا يبقى في متابعته شيئا ولا يذر وليعلم أن نفعه في خطأ شيخه لو أخطأ أكثر من نفعه في صواب نفسه لو أصاب فإذا وجد مثل هذا المعتصم وجب على معتصمه أن يحميه ويعصمه بحصن حصين يدفع عنه قواطع الطريق وهو أربعة أمور الخلوة والصمت والجوع والسهر وهذا تحصن من القواطع فإن مقصود المريد إصلاح قلبه ليشاهد به ربه ويصلح لقربه أما الجوع فإنه ينقص دم القلب ويبيضه وفي بياضه نوره ويذيب شحم الفؤاد وفي ذوبانه رقته ورقته مفتاح المكاشفة كما أن قساوته سبب الحجاب ومهما نقص دم القلب ضاق مسلك العدو فإن مجاريه العروق الممتلئة بالشهوات وقال عيسى عليه السلام يا معشر الحواريين جوعوا بطونكم لعل قلوبكم ترى ربكم وقال سهل بن عبد الله التستري ما صار الأبدال أبدالا إلا بأربع خصال بإخماص البطون والسهر والصمت والاعتزال عن الناس ففائدة الجوع في تنوير القلب أمر ظاهر يشهد له التجربة وسيأتي بيان وجه التدريج فيه في كتاب كسر الشهوتين وأما السهر فإنه يجلو القلب ويصفيه وينوره فيضاف ذلك إلى الصفاء الذي حصل من الجوع فيصير القلب كالكوكب الدري والمرآة المجلوة فيلوح فيه جمال الحق ويشاهد فيه رفيع الدرجات في الآخرة وحقارة الدنيا وآفاتها فتتم بذلك رغبته عن الدنيا وإقباله على الآخرة والسهر أيضا نتيجة الجوع فإن السهر مع الشبع غير ممكن والنوم يقسي القلب ويميته إلا إذا كان بقدر الضرورة فيكون سبب المكاشفة لأسرار الغيب فقد قيل في صفة الأبدال إن أكلهم فاقه ونومهم غلبة وكلامهم ضرورة وقال إبراهيم الخواص رحمه الله أجمع رأي سبعين صديقا على أن كثرة النوم من كثرة شرب الماء وأما الصمت فإنه تسهله العزلة ولكن المعتزل لا يخلو عن مشاهدة من يقوم له بطعامه وشرابه وتدبير أمره فينبغي أن لا يتكلم إلا بقدر الضرورة فإن الكلام يشغل القلب وشره القلوب إلى الكلام عظيم فإنه يستروح إليه ويستثقل التجرد للذكر والفكر فيستريح إليه فالصمت يلقح العقل ويجلب الورع ويعلم التقوى وأما حياة الخلوة ففائدتها دفع الشواغل وضبط السمع والبصر فإنهما دهليز القلب والقلب في حكم حوض تنصب إليه مياه كريهة كدرة قذرة من أنهار الحواس ومقصود الرياضة تفريغ الحوض من تلك المياه ومن الطين الحاصل منها ليتفجر أصل الحوض فيخرج منه الماء النظيف الطاهر وكيف يصح له أن ينزح الماء من الحوض والأنهار مفتوحة إليه فيتجدد في كل حال أكثر مما ينقص فلا بد من ضبط الحواس إلا عن قدر الضرورة وليس يتم ذلك إلا بالخلوة في بيت مظلم وإن لم يكن له مكان مظلم فليلف رأسه في جيبه أو يتدثر بكساء أو إزار ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق ويشاهد جلال الحضرة الربوبية أما ترى أن نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه وهو على مثل هذه الصفة فقيل له يا أيها المزمل يا أيها المدثر حديث بدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مدثر فقيل له يا أيها المزمل يا أيها المدثر متفق عليه من حديث جابر جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يمينى الحديث وفيه فأتيت خديجة فقلت دثروني وصبوا علي الماء باردا فدثروني وصبوا علي ماء باردا قال فنزلت يا أيها المدثر وفي رواية فقلت زملوني زملوني ولهما من حديث عائشة فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فهذه الأربعة جنة وحصن بها تدفع عنه القواطع وتمنع العوارض القاطعة للطريق فإذا فعل ذلك اشتغل بعده بسلوك الطريق وإنما سلوكه بقطع العقبات ولا عقبة على طريق الله تعالى إلا صفات القلب التي سببها الالتفات إلى الدنيا وبعض تلك العقبات أعظم من بعض والترتيب في قطعها أن يشتغل بالأسهل فالأسهل وهي تلك الصفات أعني أسرار العلائق التي قطعها في أول الإرادة وآثارها أعني المال والجاه وحب الدنيا والالتفات إلى الخلق والتشوف إلى المعاصي فلا بد أن يخلى الباطن عن آثارها كما أخلى الظاهر عن أسبابها الظاهرة وفيه تطول المجاهدة ويختلف ذلك باختلاف الأحوال فرب شخص قد كفى أكثر الصفات فلا تطول عليه المجاهدة وقد ذكرنا أن طريق المجاهدة مضادة الشهوات ومخالفة الهوى في كل صفة غالبة على نفس المريد كما سبق ذكره فإذا كفى ذلك أو ضعف بالمجاهدة ولم يبق في قلبه علاقة شغله بعد ذلك بذكر يلزم قلبه على الدوام ويمنعه من تكثير الأوراد الظاهرة بل يقتصر على الفرائض والرواتب ويكون ورده وردا واحدا وهو لباب الأوراد وثمرتها أعني ملازمة القلب لذكر الله تعالى بعد الخلو من ذكر غيره ولا يشغله به مادام قلبه ملتفتا إلى علائقهقال الشبلي للحصري إن كان يخطر بقلبك من الجمعة التي تأتيني فيها إلى الجمعة الأخرى شيء غير الله تعالى فحرام عليك أن تأتيني وهذا التجرد لا يحصل إلا مع صدق الإرادة واستيلاء حب الله تعالى على القلب حتى يكون في صورة العاشق المستهتر الذي ليس له إلا هم واحد فإذا كان كذلك ألزمه الشيخ زاوية ينفرد بها ويوكل به من يقوم له بقدر يسير من القوت الحلال فإن أصل طريق الدين القوت الحلال وعند ذلك يلقنه ذكرا من الأذكار حتى يشغل به لسانه وقلبه فيجلس ويقول مثلا الله الله أو سبحان الله سبحان الله أو ما يراه الشيخ من الكلمات فلا يزال يواظب عليه حتى تسقط حركة اللسان وتكون الكلمة كأنها جارية على اللسان من غير تحريك ثم لا يزال يواظب عليه حتى يسقط الأثر عن اللسان وتبقي صورة اللفظ في القلب ثم لا يزال كذلك حتى يمحى عن القلب حروف اللفظ وصورته وتبقى حقيقة معناه لازمة للقلب حاضرة معه غالبة عليه قد فرغ عن كل ما سواه لأن القلب إذا شغل بشيء خلا عن غيره أي شيء كان فإذا اشتغل بذكر الله تعالى وهو المقصود خلا لا محالة عن غيره وعند ذلك يلزمه أن يراقب وساوس القلب والخواطر التي تتعلق بالدنيا وما يتذكر فيه مما قدر مضى من أحواله وأحوال غيره فإنه مهما اشتغل بشيء منه ولو في لحظة خلا قلبه عن الذكر في تلك اللحظة وكان أيضا نقصانا فليجتهد في دفع ذلك ومهما دفع الوساوس كلها ورد النفس إلى هذه الكلمة جاءته الوساوس من هذه الكلمة وأنها ما هي وما معنى قولنا الله ولأي معنى كان إلها وكان معبودا ويعتريه عند ذلك خواطر تفتح عليه باب الفكر وربما يرد عليه من وساوس الشيطان ما هو كفر وبدعة ومهما كان كارها لذلك ومتشمرا لإماطته عن القلب لم يضره ذلك وهي منقسمة إلى ما يعلم قطعا أن الله تعالى منزه عنه ولكن الشيطان يلقي ذلك في قلبه ويجريه على خاطره فشرطه أن يبالي به ويفزع إلى ذكر الله تعالى ويبتهل إليه ليدفعه عنه كما قال الله تعالى وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم وقال تعالى إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإلى ما يشك فيه فينبغي أن يعرض ذلك على شيخه بل كل ما يجد في قلبه من الأحوال من فترة أو نشاط أو التفات إلى علقة أو صدق في إرادة فينبغي أن يظهر ذلك لشيخه وأن يستره عن غيره فلا يطلع عليه أحدا ثم إن شيخه ينظر في حاله ويتأمل في ذكائه وكياسته فلو علم أنه لو تركه وأمره بالفكر تنبه من نفسه على حقيقة الحق فينبغي أن يحيله على الفكر ويأمره بملازمته حتى يقذف في قلبه من النور ما يكشف له حقيقته وإن علم إن ذلك مما لا يقوى عليه مثله رده إلى الاعتقاد القاطع بما يحتمله قلبه من وعظ وذكر ودليل قريب من فهمه وينبغي أن يتأنق الشيخ ويتلطف به فإن هذه مهالك الطريق ومواضع أخطارها فكم من مريد اشتغل بالرياضة فغلب عليه خيال فاسد لم يقو على كشفه فانقطع عليه طريقه فاشتغل بالبطالة وسلك طريق الإباحة وذلك هو الهلاك العظيم ومن تجرد للذكر ودفع العلائق الشاغلة عن قلبه لم يخل عن أمثال هذه الأفكار فإنه قد ركب سفينة الخطر فإن سلم كان من ملوك الدين وإن أخطأ كان من الهالكين ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عليكم بدين العجائز حديث عليكم بدين العجائز قال ابن طاهر في كتاب التذكرة هذا اللفظ تداوله العامة ولم أقف له على أصل يرجع إليه من رواية صحيحة ولا سقيمة حتى رأيت حديثا لمحمد بن عبد الرحمن بن السلماني عن ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في آخر الزمان واختلف الأهواء فعليكم بدين أهل البادية والنسائي وابن السلماني له عن أبيه عن ابن عمر نسخة كان يتهم بوضعها انتهى وهذا اللفظ من هذا الوجه رواه ابن حبان في الضعفاء في ترجمة ابن السلماني والله أعلم وهو تلقي أصل الإيمان وظاهر الاعتقاد بطريق التقليد والاشتغال بأعمال الخير فإن الخطر في العدول عن ذلك كثير ولذلك قيل يجب على الشيخ أن يتفرس في المريد فإن لم يكن ذكيا فطنا متمكنا من اعتقاد الظاهر لم يشغله بالذكر والفكر بل يرده إلى الأعمال الظاهرة والأوراد المتواترة أو يشغله بخدمة المتجردين للفكر لتشمله بركتهم فإن العاجز عن الجهاد في صف القتال ينبغي أن يسقي القوم ويتعهد دوابهم ليحشر يوم القيامة في زمرتهم وتعمه بركتهم وإن كان لا يبلغ درجتهم ثم المريد المتجرد للذكر والفكر قد يقطعه قواطع كثيرة من العجب والرياء والفرح بما ينكشف له من الأحوال وما يبدو من أوائل الكرامات ومهما التفت إلى شيء من ذلك وشغلت به نفسه كان ذلك فتورا في طريقه ووقوفا بل ينبغي أن يلازم حاله جملة عمره ملازمة العطشان الذي لا ترويه البحار ولو أفيضت عليه ويدوم على ذلك ورأس ماله الانقطاع عن الخلق إلى الحق والخلوة قال بعض السياحين قلت لبعض الأبدال المنقطعين عن الخلق كيف الطريق إلى التحقيق فقال أن تكون في الدنيا كأنك عابر طريق وقال مرة قلت له دلني على عمل أجد قلبي فيه مع الله تعالى على الدوام فقال لي لا تنظر إلى الخلق فإن النظر إليهم ظلمة قلت لا بد لي من ذلك قال فلا تسمع كلامهم فإن كلامهم قسوة قلت لا بد لي من ذلك قال فلا تعاملهم فإن معاملتهم وحشة قلت أنا بين أظهرهم لا بد لي من معاملتهم قال فلا تسكن إليهم فإن السكون إليهم هلكة قلت هذا لعلة قال يا هذا أتنظر إلى الغافلين وتسمع كلام الجاهلين وتعامل البطالين وتريد أن تجد قلبك مع الله تعالى على الدوام هذا ما لا يكون أبدا فإذا منتهى الرياضة أن يجد قلبه مع الله تعالى على الدوام ولا يمكن ذلك إلا بأن يخلو عن غيره ولا يخلو عن غيره إلا بطول المجاهدة فإذا حصل قلبه مع الله تعالى انكشف له جلال الحضرة الربوبية وتجلى له الحق وظهر له من لطائف الله تعالى ما لا يجوز أن يوصف بل لا يحيط به الوصف أصلا وإذا انكشف للمريد شيء من ذلك فأعظم القواطع عليه أن يتكلم به وعظا ونصحا ويتصدى للتذكير فتجد النفس فيه لذة ليس وراءها لذة فتدعوه تلك اللذة إلى أن يتفكر في كيفية إيراد تلك المعاني وتحسين الألفاظ المعبرة عنها وترتيب ذكرها وتزيينها بالحكايات وشواهد القرآن والأخبار وتحسين صنعة الكلام لتميل إليه القلوب والأسماع فربما يخيل إليه الشيطان أن هذا إحياء منك لقلوب الموتى الغافلين عن الله تعالى وإنما أنت واسطة بين الله تعالى وبين الخلق تدعو عباده إليه ومالك فيه نصيب ولا لنفسك فيه لذة ويتضح كيد الشيطان بأن يظهر في أقرانه من يكون أحسن كلاما منه وأجزل لفظا وأقدر على استجلاب قلوب العوام فإنه يتحرك في باطنه عقرب الحسد لا محالة إن كان محركه كيد القبول وإن كان محركه هو الحق حرصا على دعوة عباد الله تعالى إلى صراطه المستقيم فيعظم به فرحه ويقول الحمد لله الذي عضدني وأيدني بمن وازرني على إصلاح عباده كالذي وجب عليه مثلا أن يحمل ميتا ليدفنه إذ وجده ضائعا وتعين عليه ذلك شرعا فجاء من أعانه عليه فإنه يفرح به ولا يحسد من يعينه والغافلون موتى القلوب والوعاظ هم المنبهون والمحيون لهم ففي كثرتهم استرواح وتناصر فينبغي أن يعظم الفرح بذلك وهذا عزيز على الوجود جدا فينبغي أن يكون المريد على حذر منه فإنه أعظم حبائل الشيطان في قطع الطريق على من انفتحت له أوائل الطريق فإن إيثار الحياة الدنيا طبع غالب على الإنسان ولذلك قال الله تعالى بل تؤثرون الحياة الدنيا ثم بين أن الشر قديم في الطباع وأن ذلك مذكور في الكتب السالفة فقال إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى فهذا منهاج رياضة المريد وتربيته في التدريج إلى لقاء الله تعالى فأما تفصيل الرياضة في كل صفة فسيأتي فإن أغلب الصفات على الإنسان بطنه وفرجه ولسانه أعني به الشهوات المتعلقة بها ثم الغضب الذي هو كالجند لحماية الشهوات ثم مهما أحب الإنسان شهوة البطن والفرج وأنس بهما أحب الدنيا ولم يتمكن منها إلا بالمال والجاه وإذا طلب المال والجاه حدث فيه الكبر والعجب والرياسة وإذا ظهر ذلك لم تسمح نفسه بترك الدنيا رأسا وتمسك من الدين بما فيه الرياسة وغلب عليه الغرور فلهذا وجب علينا بعد تقديم هذين الكتابين أن نستكمل ربع المهلكات بثمانية كتب إن شاء الله تعالى كتاب في كسر شهوة البطن والفرج وكتاب في آفات اللسان وكتاب في كسر الغضب والحقد والحسد وكتاب في ذم الدنيا وتفصيل خدعها وكتاب في كسر حب المال وذم البخل وكتاب في ذم الرياء وحب الجاه وكتاب في ذم الكبر والعجب وكتاب في مواقع الغرور وبذكر هذه المهلكات وتعليم طرق المعالجة فيها يتم غرضنا من ربع المهلكات إن شاء الله تعالى فإن ما ذكرناه في الكتاب الأول هو شرح لصفات القلب الذي هو معدن المهلكات والمنجيات وما ذكرناه في الكتاب الثاني هو إشارة كلية إلى طريق تهذيب الأخلاق ومعالجة أمراض القلوب أما تفصيلها فإنه يأتي في هذه الكتب إن شاء الله تعالى تم كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق بحمد الله وعونه وحسن توفيقه يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب كسر الشهوتين والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وعلى كل عبد مصطفى من أهل الأرض والسماء وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
إعداد : حسب الرسول الطيب الشيخ
00249129950207
بيان شروط الإرادة ومقدمات المجاهدة وتدريج المريد في سلوك سبيل الرياضة
من كتاب الرياضة بإحياء علوم الدين لابي حامد الغزالي
واعلم أن من شاهد الآخرة بقلبه مشاهدة يقين أصبح بالضرورة مريدا حرث الآخرة مشتاقا إليها سالكا سبلها مستهينا بنعيم الدنيا ولذاتها فإن من كانت عنده خرزة فرأى جوهرة نفيسة لم يبق له رغبة في الخرزة وقويت إرادته في بيعها بالجوهرة ومن ليس مريدا حرث الآخرة ولا طالبا للقاء الله تعالى فهو لعدم إيمانه بالله واليوم الآخر ولست أعني بالإيمان حديث النفس وحركة اللسان بكلمتي الشهادة من غير صدق وإخلاص فإن ذلك يضاهي قول من صدق بأن الجوهرة خير من الخرزة إلا أنه لا يدري من الجوهرة إلا لفظها وأما حقيقتها فلا ومثل هذا المصدق إذا ألف الخرزة قد لا يتركها ولا يعظم اشتياقه إلى الجوهرة فإذن المانع من الوصول عدم السلوك والمانع من السلوك عدم الإرادة والمانع من الإرادة عدم الإيمان وسبب عدم الإيمان عدم الهداة والمذكرين والعلماء بالله تعالى الهادين إلى طريقه والمنبهين على حقارة الدنيا وانقراضها وعظم أمر الآخرة ودوامها فالخلق غافلون قد انهمكوا في شهواتهم وغاصوا في رقدتهم وليس في علماء الدين من ينبههم فإن تنبه منهم متنبه عجز عن سلوك الطريق لجهله فإن طلب الطريق من العلماء وجدهم مائلين إلى الهوى عادلين عن نهج الطريق فصار ضعف الإرادة والجهل بالطريق ونطق العلماء بالهوى سببا لخلق طريق الله تعالى عن السالكين فيه ومهما كان المطلوب محجوبا والدليل مفقودا والهوى غالبا والطالب غافلا امتنع الوصول وتعطلت الطرق لا محالة فإن تنبه متنبه من نفسه أو من تنبيه غيره وانبعث له إرادة في حرث الآخرة وتجارتها فينبغي أن يعلم له شروطا لا بد من تقديمها في بداية الإرادة وله معتصم لا بد من التمسك به وله حصن لا بد من التحصن به ليأمن من الأعداء القطاع لطريقه وعليه وظائف لا بد من ملازمتها في وقت سلوك الطريق أما الشروط التي لا بد من تقديمها في الإرادة فهي رفع السد والحجاب الذي بينه وبين الحق فإن حرمان الخلق عن الحق سببه تراكم الحجب ووقوع السد على الطريق قال الله تعالى وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون والسد بين المريد وبين الحق أربعة المال والجاه والتقليد والمعصية وإنما يرفع حجاب المال بخروجه عن ملكه حتى لا يبقى له إلا قدر الضرورة فما دام يبقى له درهم يلتفت إليه فهو مقيد به محجوب عن الله عز وجل وإنما يرتفع حجاب الجاه بالبعد عن موضع الجاه بالتواضع وإيثار الخمول والهرب من أسباب الذكر وتعاطي أعمال تنفر قلوب الخلق عنه وإنما يرتفع حجاب التقليد بأن يترك التعصب للمذاهب وأن يصدق بمعنى قوله لا إله إلا الله محمد رسول الله تصديق إيمان ويحرض في تحقيق صدقه بأن يرفع كل معبود له سوى الله تعالى وأعظم معبود له الهوى حتى إذا فعل ذلك انكشف له حقيقة الأمر في معنى اعتقاده الذي تلقفه تقليدا فينبغي أن يطلب كشف ذلك من المجاهدة لا من المجادلة فإن غلب عليه التعصب لمعتقده ولم يبق في نفسه متسع لغيره صار ذلك قيدا له وحجابا إذ ليس من شرط المريد الانتماء إلى مذهب معين أصلا وأما المعصية فهي حجاب ولا يرفعها إلا التوبة والخروج من المظالم وتصميم العزم على ترك العود وتحقيق الندم على ما مضى ورد المظالم وإرضاء الخصوم فإن من لم يصحح التوبة ولم يهجر المعاصي الظاهرة وأراد أن يقف على أسرار الدين بالمكاشفة كان كمن يريد أن يقف على أسرار القرآن وتفسيره وهو بعد لم يتعلم لغة العرب فإن ترجمة عربية القرآن لا بد من تقديمها أولا ثم الترقي منها إلى أسرار معانيه فكذلك لا بد من تصحيح الشريعة أولا وآخرا ثم الترقي إلى أغوارها وأسرارها فإذا قدم هذه الشروط الأربعة وتجرد عن المال والجاه كان كمن تطهر وتوضأ ورفع الحدث وصار صالحا للصلاة فيحتاج إلى إمام يقتدي به فكذلك المريد يحتاج إلى شيخ وأستاذ يقتدي به لا محالة ليهديه إلى سواء السبيل فإن سبيل الدين غامض وسبل الشيطان كثيرة ظاهرة فمن لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طرقه لا محالة فمن سلك سبل البوادي المهلكة بغير خفير قد خاطر بنفسه وأهلكها ويكون المستقل بنفسه كالشجرة التي تنبت بنفسها فإنها تجف على القرب وإن بقيت مدة وأورقت لم تثمر فمعتصم المريد بعد تقديم الشروط المذكورة شيخه فليتمسك به تمسك الأعمى على شاطيءالنهر بالقائد بحيث يفوض أمره إليه بالكلية ولا يخالفه في ورده ولا صدره ولا يبقى في متابعته شيئا ولا يذر وليعلم أن نفعه في خطأ شيخه لو أخطأ أكثر من نفعه في صواب نفسه لو أصاب فإذا وجد مثل هذا المعتصم وجب على معتصمه أن يحميه ويعصمه بحصن حصين يدفع عنه قواطع الطريق وهو أربعة أمور الخلوة والصمت والجوع والسهر وهذا تحصن من القواطع فإن مقصود المريد إصلاح قلبه ليشاهد به ربه ويصلح لقربه أما الجوع فإنه ينقص دم القلب ويبيضه وفي بياضه نوره ويذيب شحم الفؤاد وفي ذوبانه رقته ورقته مفتاح المكاشفة كما أن قساوته سبب الحجاب ومهما نقص دم القلب ضاق مسلك العدو فإن مجاريه العروق الممتلئة بالشهوات وقال عيسى عليه السلام يا معشر الحواريين جوعوا بطونكم لعل قلوبكم ترى ربكم وقال سهل بن عبد الله التستري ما صار الأبدال أبدالا إلا بأربع خصال بإخماص البطون والسهر والصمت والاعتزال عن الناس ففائدة الجوع في تنوير القلب أمر ظاهر يشهد له التجربة وسيأتي بيان وجه التدريج فيه في كتاب كسر الشهوتين وأما السهر فإنه يجلو القلب ويصفيه وينوره فيضاف ذلك إلى الصفاء الذي حصل من الجوع فيصير القلب كالكوكب الدري والمرآة المجلوة فيلوح فيه جمال الحق ويشاهد فيه رفيع الدرجات في الآخرة وحقارة الدنيا وآفاتها فتتم بذلك رغبته عن الدنيا وإقباله على الآخرة والسهر أيضا نتيجة الجوع فإن السهر مع الشبع غير ممكن والنوم يقسي القلب ويميته إلا إذا كان بقدر الضرورة فيكون سبب المكاشفة لأسرار الغيب فقد قيل في صفة الأبدال إن أكلهم فاقه ونومهم غلبة وكلامهم ضرورة وقال إبراهيم الخواص رحمه الله أجمع رأي سبعين صديقا على أن كثرة النوم من كثرة شرب الماء وأما الصمت فإنه تسهله العزلة ولكن المعتزل لا يخلو عن مشاهدة من يقوم له بطعامه وشرابه وتدبير أمره فينبغي أن لا يتكلم إلا بقدر الضرورة فإن الكلام يشغل القلب وشره القلوب إلى الكلام عظيم فإنه يستروح إليه ويستثقل التجرد للذكر والفكر فيستريح إليه فالصمت يلقح العقل ويجلب الورع ويعلم التقوى وأما حياة الخلوة ففائدتها دفع الشواغل وضبط السمع والبصر فإنهما دهليز القلب والقلب في حكم حوض تنصب إليه مياه كريهة كدرة قذرة من أنهار الحواس ومقصود الرياضة تفريغ الحوض من تلك المياه ومن الطين الحاصل منها ليتفجر أصل الحوض فيخرج منه الماء النظيف الطاهر وكيف يصح له أن ينزح الماء من الحوض والأنهار مفتوحة إليه فيتجدد في كل حال أكثر مما ينقص فلا بد من ضبط الحواس إلا عن قدر الضرورة وليس يتم ذلك إلا بالخلوة في بيت مظلم وإن لم يكن له مكان مظلم فليلف رأسه في جيبه أو يتدثر بكساء أو إزار ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق ويشاهد جلال الحضرة الربوبية أما ترى أن نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه وهو على مثل هذه الصفة فقيل له يا أيها المزمل يا أيها المدثر حديث بدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مدثر فقيل له يا أيها المزمل يا أيها المدثر متفق عليه من حديث جابر جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يمينى الحديث وفيه فأتيت خديجة فقلت دثروني وصبوا علي الماء باردا فدثروني وصبوا علي ماء باردا قال فنزلت يا أيها المدثر وفي رواية فقلت زملوني زملوني ولهما من حديث عائشة فقال زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فهذه الأربعة جنة وحصن بها تدفع عنه القواطع وتمنع العوارض القاطعة للطريق فإذا فعل ذلك اشتغل بعده بسلوك الطريق وإنما سلوكه بقطع العقبات ولا عقبة على طريق الله تعالى إلا صفات القلب التي سببها الالتفات إلى الدنيا وبعض تلك العقبات أعظم من بعض والترتيب في قطعها أن يشتغل بالأسهل فالأسهل وهي تلك الصفات أعني أسرار العلائق التي قطعها في أول الإرادة وآثارها أعني المال والجاه وحب الدنيا والالتفات إلى الخلق والتشوف إلى المعاصي فلا بد أن يخلى الباطن عن آثارها كما أخلى الظاهر عن أسبابها الظاهرة وفيه تطول المجاهدة ويختلف ذلك باختلاف الأحوال فرب شخص قد كفى أكثر الصفات فلا تطول عليه المجاهدة وقد ذكرنا أن طريق المجاهدة مضادة الشهوات ومخالفة الهوى في كل صفة غالبة على نفس المريد كما سبق ذكره فإذا كفى ذلك أو ضعف بالمجاهدة ولم يبق في قلبه علاقة شغله بعد ذلك بذكر يلزم قلبه على الدوام ويمنعه من تكثير الأوراد الظاهرة بل يقتصر على الفرائض والرواتب ويكون ورده وردا واحدا وهو لباب الأوراد وثمرتها أعني ملازمة القلب لذكر الله تعالى بعد الخلو من ذكر غيره ولا يشغله به مادام قلبه ملتفتا إلى علائقهقال الشبلي للحصري إن كان يخطر بقلبك من الجمعة التي تأتيني فيها إلى الجمعة الأخرى شيء غير الله تعالى فحرام عليك أن تأتيني وهذا التجرد لا يحصل إلا مع صدق الإرادة واستيلاء حب الله تعالى على القلب حتى يكون في صورة العاشق المستهتر الذي ليس له إلا هم واحد فإذا كان كذلك ألزمه الشيخ زاوية ينفرد بها ويوكل به من يقوم له بقدر يسير من القوت الحلال فإن أصل طريق الدين القوت الحلال وعند ذلك يلقنه ذكرا من الأذكار حتى يشغل به لسانه وقلبه فيجلس ويقول مثلا الله الله أو سبحان الله سبحان الله أو ما يراه الشيخ من الكلمات فلا يزال يواظب عليه حتى تسقط حركة اللسان وتكون الكلمة كأنها جارية على اللسان من غير تحريك ثم لا يزال يواظب عليه حتى يسقط الأثر عن اللسان وتبقي صورة اللفظ في القلب ثم لا يزال كذلك حتى يمحى عن القلب حروف اللفظ وصورته وتبقى حقيقة معناه لازمة للقلب حاضرة معه غالبة عليه قد فرغ عن كل ما سواه لأن القلب إذا شغل بشيء خلا عن غيره أي شيء كان فإذا اشتغل بذكر الله تعالى وهو المقصود خلا لا محالة عن غيره وعند ذلك يلزمه أن يراقب وساوس القلب والخواطر التي تتعلق بالدنيا وما يتذكر فيه مما قدر مضى من أحواله وأحوال غيره فإنه مهما اشتغل بشيء منه ولو في لحظة خلا قلبه عن الذكر في تلك اللحظة وكان أيضا نقصانا فليجتهد في دفع ذلك ومهما دفع الوساوس كلها ورد النفس إلى هذه الكلمة جاءته الوساوس من هذه الكلمة وأنها ما هي وما معنى قولنا الله ولأي معنى كان إلها وكان معبودا ويعتريه عند ذلك خواطر تفتح عليه باب الفكر وربما يرد عليه من وساوس الشيطان ما هو كفر وبدعة ومهما كان كارها لذلك ومتشمرا لإماطته عن القلب لم يضره ذلك وهي منقسمة إلى ما يعلم قطعا أن الله تعالى منزه عنه ولكن الشيطان يلقي ذلك في قلبه ويجريه على خاطره فشرطه أن يبالي به ويفزع إلى ذكر الله تعالى ويبتهل إليه ليدفعه عنه كما قال الله تعالى وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم وقال تعالى إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإلى ما يشك فيه فينبغي أن يعرض ذلك على شيخه بل كل ما يجد في قلبه من الأحوال من فترة أو نشاط أو التفات إلى علقة أو صدق في إرادة فينبغي أن يظهر ذلك لشيخه وأن يستره عن غيره فلا يطلع عليه أحدا ثم إن شيخه ينظر في حاله ويتأمل في ذكائه وكياسته فلو علم أنه لو تركه وأمره بالفكر تنبه من نفسه على حقيقة الحق فينبغي أن يحيله على الفكر ويأمره بملازمته حتى يقذف في قلبه من النور ما يكشف له حقيقته وإن علم إن ذلك مما لا يقوى عليه مثله رده إلى الاعتقاد القاطع بما يحتمله قلبه من وعظ وذكر ودليل قريب من فهمه وينبغي أن يتأنق الشيخ ويتلطف به فإن هذه مهالك الطريق ومواضع أخطارها فكم من مريد اشتغل بالرياضة فغلب عليه خيال فاسد لم يقو على كشفه فانقطع عليه طريقه فاشتغل بالبطالة وسلك طريق الإباحة وذلك هو الهلاك العظيم ومن تجرد للذكر ودفع العلائق الشاغلة عن قلبه لم يخل عن أمثال هذه الأفكار فإنه قد ركب سفينة الخطر فإن سلم كان من ملوك الدين وإن أخطأ كان من الهالكين ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عليكم بدين العجائز حديث عليكم بدين العجائز قال ابن طاهر في كتاب التذكرة هذا اللفظ تداوله العامة ولم أقف له على أصل يرجع إليه من رواية صحيحة ولا سقيمة حتى رأيت حديثا لمحمد بن عبد الرحمن بن السلماني عن ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في آخر الزمان واختلف الأهواء فعليكم بدين أهل البادية والنسائي وابن السلماني له عن أبيه عن ابن عمر نسخة كان يتهم بوضعها انتهى وهذا اللفظ من هذا الوجه رواه ابن حبان في الضعفاء في ترجمة ابن السلماني والله أعلم وهو تلقي أصل الإيمان وظاهر الاعتقاد بطريق التقليد والاشتغال بأعمال الخير فإن الخطر في العدول عن ذلك كثير ولذلك قيل يجب على الشيخ أن يتفرس في المريد فإن لم يكن ذكيا فطنا متمكنا من اعتقاد الظاهر لم يشغله بالذكر والفكر بل يرده إلى الأعمال الظاهرة والأوراد المتواترة أو يشغله بخدمة المتجردين للفكر لتشمله بركتهم فإن العاجز عن الجهاد في صف القتال ينبغي أن يسقي القوم ويتعهد دوابهم ليحشر يوم القيامة في زمرتهم وتعمه بركتهم وإن كان لا يبلغ درجتهم ثم المريد المتجرد للذكر والفكر قد يقطعه قواطع كثيرة من العجب والرياء والفرح بما ينكشف له من الأحوال وما يبدو من أوائل الكرامات ومهما التفت إلى شيء من ذلك وشغلت به نفسه كان ذلك فتورا في طريقه ووقوفا بل ينبغي أن يلازم حاله جملة عمره ملازمة العطشان الذي لا ترويه البحار ولو أفيضت عليه ويدوم على ذلك ورأس ماله الانقطاع عن الخلق إلى الحق والخلوة قال بعض السياحين قلت لبعض الأبدال المنقطعين عن الخلق كيف الطريق إلى التحقيق فقال أن تكون في الدنيا كأنك عابر طريق وقال مرة قلت له دلني على عمل أجد قلبي فيه مع الله تعالى على الدوام فقال لي لا تنظر إلى الخلق فإن النظر إليهم ظلمة قلت لا بد لي من ذلك قال فلا تسمع كلامهم فإن كلامهم قسوة قلت لا بد لي من ذلك قال فلا تعاملهم فإن معاملتهم وحشة قلت أنا بين أظهرهم لا بد لي من معاملتهم قال فلا تسكن إليهم فإن السكون إليهم هلكة قلت هذا لعلة قال يا هذا أتنظر إلى الغافلين وتسمع كلام الجاهلين وتعامل البطالين وتريد أن تجد قلبك مع الله تعالى على الدوام هذا ما لا يكون أبدا فإذا منتهى الرياضة أن يجد قلبه مع الله تعالى على الدوام ولا يمكن ذلك إلا بأن يخلو عن غيره ولا يخلو عن غيره إلا بطول المجاهدة فإذا حصل قلبه مع الله تعالى انكشف له جلال الحضرة الربوبية وتجلى له الحق وظهر له من لطائف الله تعالى ما لا يجوز أن يوصف بل لا يحيط به الوصف أصلا وإذا انكشف للمريد شيء من ذلك فأعظم القواطع عليه أن يتكلم به وعظا ونصحا ويتصدى للتذكير فتجد النفس فيه لذة ليس وراءها لذة فتدعوه تلك اللذة إلى أن يتفكر في كيفية إيراد تلك المعاني وتحسين الألفاظ المعبرة عنها وترتيب ذكرها وتزيينها بالحكايات وشواهد القرآن والأخبار وتحسين صنعة الكلام لتميل إليه القلوب والأسماع فربما يخيل إليه الشيطان أن هذا إحياء منك لقلوب الموتى الغافلين عن الله تعالى وإنما أنت واسطة بين الله تعالى وبين الخلق تدعو عباده إليه ومالك فيه نصيب ولا لنفسك فيه لذة ويتضح كيد الشيطان بأن يظهر في أقرانه من يكون أحسن كلاما منه وأجزل لفظا وأقدر على استجلاب قلوب العوام فإنه يتحرك في باطنه عقرب الحسد لا محالة إن كان محركه كيد القبول وإن كان محركه هو الحق حرصا على دعوة عباد الله تعالى إلى صراطه المستقيم فيعظم به فرحه ويقول الحمد لله الذي عضدني وأيدني بمن وازرني على إصلاح عباده كالذي وجب عليه مثلا أن يحمل ميتا ليدفنه إذ وجده ضائعا وتعين عليه ذلك شرعا فجاء من أعانه عليه فإنه يفرح به ولا يحسد من يعينه والغافلون موتى القلوب والوعاظ هم المنبهون والمحيون لهم ففي كثرتهم استرواح وتناصر فينبغي أن يعظم الفرح بذلك وهذا عزيز على الوجود جدا فينبغي أن يكون المريد على حذر منه فإنه أعظم حبائل الشيطان في قطع الطريق على من انفتحت له أوائل الطريق فإن إيثار الحياة الدنيا طبع غالب على الإنسان ولذلك قال الله تعالى بل تؤثرون الحياة الدنيا ثم بين أن الشر قديم في الطباع وأن ذلك مذكور في الكتب السالفة فقال إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى فهذا منهاج رياضة المريد وتربيته في التدريج إلى لقاء الله تعالى فأما تفصيل الرياضة في كل صفة فسيأتي فإن أغلب الصفات على الإنسان بطنه وفرجه ولسانه أعني به الشهوات المتعلقة بها ثم الغضب الذي هو كالجند لحماية الشهوات ثم مهما أحب الإنسان شهوة البطن والفرج وأنس بهما أحب الدنيا ولم يتمكن منها إلا بالمال والجاه وإذا طلب المال والجاه حدث فيه الكبر والعجب والرياسة وإذا ظهر ذلك لم تسمح نفسه بترك الدنيا رأسا وتمسك من الدين بما فيه الرياسة وغلب عليه الغرور فلهذا وجب علينا بعد تقديم هذين الكتابين أن نستكمل ربع المهلكات بثمانية كتب إن شاء الله تعالى كتاب في كسر شهوة البطن والفرج وكتاب في آفات اللسان وكتاب في كسر الغضب والحقد والحسد وكتاب في ذم الدنيا وتفصيل خدعها وكتاب في كسر حب المال وذم البخل وكتاب في ذم الرياء وحب الجاه وكتاب في ذم الكبر والعجب وكتاب في مواقع الغرور وبذكر هذه المهلكات وتعليم طرق المعالجة فيها يتم غرضنا من ربع المهلكات إن شاء الله تعالى فإن ما ذكرناه في الكتاب الأول هو شرح لصفات القلب الذي هو معدن المهلكات والمنجيات وما ذكرناه في الكتاب الثاني هو إشارة كلية إلى طريق تهذيب الأخلاق ومعالجة أمراض القلوب أما تفصيلها فإنه يأتي في هذه الكتب إن شاء الله تعالى تم كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق بحمد الله وعونه وحسن توفيقه يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب كسر الشهوتين والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وعلى كل عبد مصطفى من أهل الأرض والسماء وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
إعداد : حسب الرسول الطيب الشيخ
00249129950207
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الإثنين أكتوبر 26, 2015 5:34 am من طرف خدام الجناب المحمدي
» الليل أغطش لوضوك في الطش
الإثنين أكتوبر 26, 2015 5:24 am من طرف خدام الجناب المحمدي
» أدب المديح النبوي في السودان
السبت يوليو 04, 2015 2:12 am من طرف حافظكو
» ادب المديح النبوي
السبت يوليو 04, 2015 2:10 am من طرف حافظكو
» ﻟَﻴْﺲَ ﺍﻟﻐَﺮﻳﺐُ ﻏَﺮﻳﺐَ ﺍﻟﺸَّﺄﻡِ ﻭﺍﻟﻴَﻤَﻦِ
الثلاثاء يونيو 23, 2015 4:45 am من طرف خدام الجناب المحمدي
» من وصايا الشيخ المكاشفي
الثلاثاء يونيو 23, 2015 4:41 am من طرف خدام الجناب المحمدي
» البحر المدير الكون؛ أستاذنا الرشيد مأمون
الثلاثاء يناير 27, 2015 6:44 am من طرف ابوزينب الشيخ
» مرادي الصادق المأمون ازورو وعندو أكون مضمون
الأحد يناير 25, 2015 6:23 am من طرف خدام الجناب المحمدي
» نشيدة الشيخ المكاشفي في الشيخ الكباشي
الأحد يناير 25, 2015 6:13 am من طرف خدام الجناب المحمدي